في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، انهار نظام بشار الأسد الاستبدادي بعد ثلاثة عشر عامًا من اندلاع الثورة السورية، شهدت البلاد خلالها ألوانًا من الموت والنزوح والدمار. دخلت قوات المعارضة بقيادة "هيئة تحرير الشام" دمشق بسهولة، بعد هجوم مفاجئ بدأ قبلها ببضعة أسابيع. عاشت سوريا الأسد عقودًا محكومة بالحديد والنار، ثم وجدت نفسها فجأة في مرحلة انتقالية.
تمثل هذه المرحلة لحظة أمل للسوريين في مستقبل عادل وسلمي. ومع ذلك؛ فهي فترة يسودها عدم الاستقرار والفوضى، وقد تشكل حقلاً خصباً لتفشى المعلومات المضللة والتدخل الأجنبي. وسائل الإعلام المحلية، التي ظلت حتى اللحظة الأخيرة أبواق دعاية للأسد، عليها الآن أن تقرر ما إذا كانت ستعيد تعريف نفسها، وكيف ستحقق ذلك تحت مظلة الحكومة الانتقالية. أما المروجون الخارجيون لنظام الأسد، الذين صُدموا من انهياره، فعليهم أن يختاروا بين تقبّل الوضع الجديد في المرحلة الانتقالية أو الوقوف في مواجهتها. والحكومات الأجنبية التي تسعى للتأثير في مسار الانتقال يجب أن تقرر كيفية تغطية وسائل إعلامها الإقليمية هذه المرحلة. وهذا الواقع، الذي يمتاز بالسيولة والتعقيد في الوقت نفسه، لا يهدده انتشار الأكاذيب فحسب، بل يهدده أيضاً التركيز على بعض الأخبار الصادقة وتجاهل البعض الآخر، على نحو يؤثر في استقرار الحكومة الانتقالية ومسارها.
في 30 يناير/كانون الثاني 2025، نشر معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط ممتازًا بشأن أشكال تضليل المعلومات التي ظهرت خلال المرحلة الانتقالية الراهنة في سوريا. يسلط المقال الضوء على موضوعات معينة أصبحت محط تركيز مروجي نظريات المؤامرة، بعضها متصل بالشأن الداخلي؛ مثل عمليات الاحتيال المالي التي تستهدف السوريين، أو المعلومات المضللة المتعلقة بالمعتقلين السياسيين الذين أُفرج عنهم من سجون الأسد سيئة السمعة. لكن هناك سرديات أخرى أكثر قابلية للتلاعب من قبل فاعلين أجانب.
لا يختلف نظام الأسد عن الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من حيث جمعه بين القمع الوحشي للأغلبية وتمييز بعض الأقليات. كانت الطائفة العلوية على رأس الأقليات التي ميزها النظام في سوريا. ومع انهياره، ظهر خوف طبيعي من احتمال تعرّض هذه الطائفة للاضطهاد على يد حكومة أغلبيّة جديدة. في مصر مثلًا، بعد سقوط مبارك عام 2011، ومع انتخاب حكومة مرسي عام 2012، أسهمت المخاوف من اضطهاد الأقلية المسيحية في مصر تحت حكم إسلامي جديد في توليد زخم انتهى في نهاية المطاف بثورة مضادة، وعودة الحكم العسكري عام 2013.
القلق المشروع بشأن رفاه الأقليات في أوقات التحولات السياسية، خاصة في ظل المخاوف من تعرّضها للانتقام بسبب تورّط بعض أفرادها أو تواطئهم مع أنظمة استبدادية، أو لاحتمال استهدافها بخطاب أو عنف طائفي في فراغ أمني بعد الثورة، قد يُضخَّم أحيانًا بشكل مصطنع. يحدث ذلك على يد بقايا النظام القديم أو حلفائه الإقليميين والدوليين، لاستخدامه كمبرر لتحركات مضادة للثورة. وهذه الاستراتيجية ليست غريبة عن سياقات الشرق الأوسط. ومن ثم، تصبح قضايا اضطهاد الأقليات، رغم أنها ليست في جوهرها روايات مضللة، أرضًا خصبة لنمو نظريات المؤامرة وتغذيتها.
الشكل ١: منشور إيفا كارين بارتليت على فيسبوك بتاريخ 16 فبراير/شباط 2025، تدّعي فيه محاولة اغتيال شاب من الطائفة العلوية، وعدم مبالاة السلطات الانتقالية في سوريا بالحادث. يشير المنشور إلى قناة "CoastSyrian24" على تيليغرام، والتي تعج منشوراتها بحوادث مزعومة من العنف الطائفي والفوضى.
يثير توقيت الإطاحة بالأسد تساؤلات بشأن استقلالية الحكومة الانتقالية في دمشق عن المصالح الأجنبية. فمنذ بداية الحرب الأهلية السورية عام 2011، لم يكن سرًا أن نظام الأسد تمكّن من الصمود في وجه قوى المعارضة من خلال استغلال تحالفاته مع روسيا وإيران وحزب الله اللبناني. وفي السنوات الأخيرة ،انشغل الجيش الروسي بالحرب على أوكرانيا. وعام 2024، خاضت إيران وحزب الله حربًا مع إسرائيل على خلفية الإبادة الجماعية في غزة، فدُمِّرت القدرات العسكرية لحزب الله بشكل كبير، ورُدعت إيران إلى حد كبير عن مواصلة التصعيد مع إسرائيل، بعد سلسلة من المواجهات العنيفة.
ومع تشتّت حلفاء الأسد، بدا منطقيًا أن تغتنم فصائل المعارضة السورية الفرصة لشنّ هجوم على دمشق. غير أن هذا الهجوم لم يكن بمعزل عن التطورات الإقليمية، ما جعله، في نظر البعض، غير مستقل تمامًا. فعلى وجه الخصوص، ورغم أن الهجوم بدا وكأنه استثمار في لحظة ضعف حزب الله بعد هزيمته في لبنان، إلا أن هذا التزامن وفّر أرضية خصبة لمنظّري المؤامرة لتصوير العملية كأنها جاءت في سياق تنسيق مع إسرائيل، وليس كمبادرة نابعة من ديناميكيات داخلية بحتة.
تزداد قوة هذه السردية التي تستند إلى نظرية المؤامرة عند النظر إلى ما أعقب الهجوم الذي شنّته فصائل المعارضة. فبعد أن تلاشت بقايا الجيش السوري أمام تقدّم المقاتلين، تعرّض ما تبقى من تلك القوات لقصف من قبل الطيران الإسرائيلي في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024، حتى أضحى الجيش السوري خلال بضعة أسابيع فقط هدفًا لكل من المعارضة المسلحة وسلاح الجو الإسرائيلي؛ وهو تقاطع يوفّر أرضية خصبة لمنظّري المؤامرة ليستنتجوا تعاون الطرفين.
كما استغلت إسرائيل الفرصة لضمّ مرتفعات الجولان وأراضٍ مجاورة داخل سوريا، من دون أن تُقابل بأي اعتراض من الحكومة الانتقالية المنشغلة بتحديات داخلية جسيمة. ورغم أن الامتناع عن الدخول في مواجهة مع إسرائيل في هذه المرحلة الحساسة قد يكون خيارًا حكيمًا من قِبل الحكومة الانتقالية، فإن فشلها في الاعتراض يُغذّي الرأي القائل بأن هناك تنسيقًا سريًا يجري خلف الكواليس.
وتُفاقِم من تغذية نظريات المؤامرة تلك النتائج غير المقصودة التي ترتبت على نجاح هجوم فصائل المعارضة السورية، لا سيّما فيما يتعلق بتأثيره في المقاومة الفلسطينية. فمع تحييد كلٍّ من حزب الله والنظام السوري، انتهت الأزمة التي استمرت عامًا على الحدود الشمالية لإسرائيل بسرعة، ما أتاح للجيش الإسرائيلي إعادة توجيه تركيزه نحو غزة والضفة الغربية. وسرعان ما تم التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار في غزة، في خطوة بدت وكأنها تعكس إدراك حركة حماس لواقع جديد، لم تعد فيه قادرة على الاعتماد على "محور المقاومة" كداعم استراتيجي.
ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار انهيار نظام الأسد بمثابة ضربة كبيرة للمقاومة الفلسطينية. وكما هو شائع في منطق نظريات المؤامرة، تُسقَط النية بأثر رجعي بناءً على الطرف المستفيد من مجريات الأحداث. وفي هذه الحالة، وبما أن إسرائيل خرجت مستفيدة من سقوط الأسد، يستنتج منظّرو المؤامرة أن ذلك لم يكن صدفة، بل نتيجة مؤامرة دبّرتها إسرائيل. ومن هنا، يُصوَّر المشهد وكأن الحكومة الانتقالية في سوريا، وإسرائيل، والولايات المتحدة جميعهم شركاء في مؤامرة واحدة.
الشكل ٢: منشور على فيسبوك من إيفا كارين بارتليت، بتاريخ 9 ديسمبر/كانون الأول 2024، تدّعي فيه أن فصائل المعارضة السورية مدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن صعودها يتعارض مع مصالح المقاومة الفلسطينية. (رابط المنشور)
رغم أن التحقق من صحة نظريات المؤامرة أو الادعاءات المرتبطة بها يخرج عن نطاق عملنا، فإننا نرى أنه من المفيد للقراء أن يتعرفوا على الكتّاب الذين ينشرون هذا النوع من المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي. يستند مقال معهد التحرير إلى أمثلة من محتوى تضليلي يُتداول على تيليغرام. ويُعتبر تيليغرام خيارًا حكيمًا للباحثين الساعين لرصد سرديات التضليل، نظرًا لسياسات المنصة المتساهلة في ضبط المحتوى، ما يضمن بقاء حتى أكثر المواد إشكالية متاحًا (انظر مثال قناة CoastSyrian24 أعلاه). ومع ذلك، وبسبب طبيعة تصميم المنصة، من غير المرجّح أن يصادف المستخدم العادي هذا النوع من المحتوى إلا إذا اختار الاشتراك في القنوات التي تنشره.
على النقيض من ذلك، تُعتبر المنصات التابعة لشركة ميتا، مثل فيسبوك وإنستغرام، أدوات أكثر خطورة لنشر المعلومات المضللة. فرغم أن محتواها يخضع لرقابة نسبية أفضل، إلا أن خوارزميات عرض المحتوى التي تعتمدها تتيح إمكانية تعرّض المستخدمين لمحتوى تضليلي بشكل عرضي، ما يزيد من نطاق انتشاره ووصوله لجمهور أوسع وأقل وعيًا. يُعد "فيسبوك" من أكثر المنصات شعبية في سوريا، ما يجعله وسيلة مفضلة للجهات الأجنبية الساعية للتأثير في الرأي العام السوري خلال المرحلة الانتقالية. أما إنستغرام، فهو لا يمثل فقط المنصة التالية التي ينتقل إليها مستخدمو فيسبوك من الجيل الجديد، بل هو أيضًا خيار مفضل لصانعي المحتوى الفلسطينيين الذين يوثقون الإبادة الجماعية في غزة. وبهذا المعنى، يشكّل إنستغرام نقطة التقاء طبيعية بين منظّري المؤامرة الموالين للأسد، والمؤثرين في موضوع القضية الفلسطينية، والمؤسسات الإعلامية ذات الصلة.
وبينما يتمتع "تيليغرام" بنظام مرن بالنسبة لتطبيقات الطرف الثالث، وواجهة برمجة تطبيقات (API) تُسهّل الوصول إلى بياناته، فإن ميتا تقدّم وصولًا محدودًا جدًا للباحثين المهتمين بالشأن العام. ولذلك، قمنا بتطوير أدوات مسح بيانات (scrapers) خاصة بنا لفيسبوك وإنستغرام لتجاوز قيود ميتا، وجمع المحتوى المنشور من قبل المعلقين على الشأن السوري. بدأنا العمل بقائمة من الأسماء المزعوم ترويجها لنظريات المؤامرة بشأن سوريا، كما هو موضح في الصورة أدناه.
الشكل ٣: صورة تُظهر قائمة بوسائل إعلام ومؤثّرين يُزعم أنهم يروّجون لمعلومات مضلّلة تتعلّق بسوريا. تعود الصورة إلى Syria Mobilization Hub، وقد نُشرت على فيسبوك من قبل Gail Vignola بتاريخ 30 يناير/كانون الثاني 2025. رابط المنشور
قمنا بمسح محتوى حساباتهم على "فيسبوك" للفترة ما بين 1 أكتوبر/تشرين الأول 2024 و31 يناير/كانون الثاني 2025؛ وهي فترة تغطي الشهرين السابقين واللاحقين لانهيار نظام الأسد. بعد ذلك، قمنا بمعالجة هذا المحتوى لاستخراج أي أمثلة على أنشطة المشاركة، أي الحالات التي أعادوا فيها نشر محتوى لجهات أخرى. ثم استخدمنا تلك الأنشطة لبناء قائمة أوسع من حسابات "فيسبوك"، ثم استخرجنا محتواها أيضًا. خريطة الشبكة الناتجة موضحة أدناه.
الشكل ٤: خريطة شبكة تفاعل من الدرجة الأولى على "فيسبوك". تمثّل العُقد صفحات ومجموعات "فيسبوك"، في حين تمثّل الحواف (الخطوط) الروابط بين العقد عندما تقوم إحدى العُقد بإعادة نشر محتوى صادر عن عقدة أخرى. تم تحديد مواقع العُقد باستخدام خوارزمية Louvain لاكتشاف التجمعات، بحيث تظهر العُقد متقاربة عندما تتشارك في محتوى مشابه (وبالتالي تتقاطع أيديولوجيًا).
تُظهر خريطة الشبكة المعروضة في الشكل 4 تكتلات أيديولوجية فائقة (superclusters) ذات ترابط داخلي قوي، مع درجة ضئيلة من التفرّع أو التشتت (نمطية منخفضة - minimal modularity).
في الجهة الجنوبية الغربية من الخريطة، يظهر تكتل يتركز حول صفحة رئاسة مجلس الوزراء السورية على "فيسبوك"، ويضم ضمنه صفحة وزارة الداخلية السورية (moi.gov.sy)، بالإضافة إلى صفحات وسائل الإعلام الرسمية؛ مثل: جريدة الوطن السورية، والوكالة العربية السورية للأنباء – سانا.
ومن اللافت أن وسائل الإعلام التي لطالما شكّلت أدوات موثوقة في خدمة دعاية نظام الأسد خلال فترة حكمه، سارعت إلى الاصطفاف إلى جانب الحكومة الانتقالية.
في أسفل الخريطة، يظهر تكتل آخر يتمحور حول صفحة syrtelevision (تلفزيون سوريا)، ويضم العديد من وسائل الإعلام المناهضة للأسد والمناصرة للثورة وفصائل المعارضة. إلى جانب تلفزيون سوريا، يضم هذا التكتل كلاً من شبكة الثورة السورية (syrian.revolution)، وشبكة شام (shaamnetwork.arabic - S.N.N)، بالإضافة إلى حسابات تابعة لقناة الجزيرة مثل الجزيرة - سوريا (aja.syria) والجزيرة - فلسطين (aja.palestine).
تجدر الإشارة إلى أن تلفزيون سوريا وS.N.N يتخذان من تركيا مقرًا لهما، في حين أن قناة الجزيرة مقرها قطر. ومن خلال مواقع هذه الجهات في الشبكة، يمكن استنتاج وجود اصطفاف إعلامي بين تركيا وقطر من جهة، والثوار السوريين من جهة أخرى.
ويخرج من تكتل الثورة عدد من الصحفيين وصنّاع المحتوى الرقمي المؤيدين للثورة أيضاً؛ من بينهم: qu.yasin و tamer.turkmane وmohammadalmasry83 وmohammad.shehabi.31.
بالقرب من مركز الشبكة، تظهر قناة العربية السعودية (alarabiya) ضمن تكتل واحد، إلى جانب وزارة الخارجية الروسية (midrussia)، وقناة سكاي نيوز عربية (skynewsarabia). ومن المهم توضيح أننا لا نستطيع تأكيد تبادل المحتوى بين هذه الحسابات الثلاثة، ويعود اقترابها من بعضها بعضاً في خريطة الشبكة نتيجة لنشاط حساب واحد على "فيسبوك"؛ وهو vmatuzov (فياتشيسلاف نيكولايفيتش ماتوزوف - Вячеслав Николаевич Матузов)، الذي يعمل محللاً سياسياً مقيماً في موسكو، وهو مسؤول سابق في الاتحاد السوفييتي مختص بالشرق الأوسط.
ورغم أن مشاركته محتوى يصب في مصلحة المواقف الروسية والسعودية والإماراتية يُعد دلالة مثيرة للاهتمام، إلا أنه من المهم عدم المبالغة في تعميم موقف فردي يمثله هذا الحساب.
ويشكّل التكتل الأكثر مركزية في خريطة الشبكة مجموعة من الحسابات؛ أبرزها: syrianviolation، ncfdvinsyria، khaled.tuaima، alkabeer.alhani، وRaymonda Hassan (100076186542421)، إلى جانب عدد من الحسابات الأخرى. وتُظهر جميع هذه الحسابات ميولاً مؤيدة للأسد، رغم أن صفحتي syrianviolation وncfdvinsyria على فيسبوك أنشئتا بعد انهيار نظامه، وهو ما يثير تساؤلات بشأن استمرارية الخطاب الموالي، واستنساخه في السياق الانتقالي.
وأُنشئت صفحة syrianviolation (المركز الوطني لتوثيق الإنتـ.هاكات في سوريا) في 27 ديسمبر/كانون الأول 2024، ويتابعها للآن 112 ألف متابع، ولديها أيضًا قناة على تيليغرام:
🔗 https://t.me/syrainviolationscenter
أما صفحة ncfdvinsyria (المركز الوطني لتوثيق الأنتهاكات في سوريا)، فقد أُنشئت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2024، وتحظى بمتابعة 261 ألف مستخدم.. يدير هذه الصفحة ثلاثة أشخاص تشير حساباتهم إلى تواجدهم في: لبنان، وسوريا، والإمارات. كما يديرون قناة على واتساب:
🔗 https://whatsapp.com/channel/0029Vb36oDu0bIdlQsmUqR1q
وفي الشمال والشمال الشرقي من الخريطة، نجد تركّزاً أكثر كثافة لمروجي نظريات المؤامرة، أبرزهم صفحة evabobeeva، التابعة للصحفية الكندية الأمريكية إيفا كارين بارتليت، التي غطّت الشأنين السوري والفلسطيني على مدى ما يقرب من عقدين. منذ سقوط الأسد، تنشر evabobeeva عدة مرات يوميًا لمتابعيها البالغ عددهم 59 ألفًا، منشورات تمزج بين التعبير عن الغضب من إبادة غزة، وانتقاد الجرائم المزعومة في أوكرانيا، مع الادعاء بأن سوريا "سقطت في أيدي إرهابيين طائفيين"، وتروّج لاتهامات بارتكاب انتهاكات ضد الأقليات (خصوصًا الطائفة العلوية)، كما تُبدي حنينًا إلى ما تسميه "المجتمع التعددي" في عهد الأسد.
بالقرب من evabobeeva تقع صفحة handsoffsyria، وهي صفحة تُدار من أستراليا وتضم 67 ألف متابع. ترتبط الصفحة بموقع إلكتروني: 🔗 https://www.handsoffsyria.org/ الذي ينشر محتوى مؤيدًا للأسد ومليئًا بنظريات المؤامرة. ومنذ انهيار النظام، امتلأت منشورات الصفحة بادعاءات بشأن كراهية طائفية تُمارس ضد الأقليات (خصوصًا العلويين) من قِبل الحكومة الانتقالية أو الميليشيات المرتبطة بها. وقد بلغت أنشطتها حدًا استدعى سياسات الإشراف على المحتوى لدى شركة ميتا.
الشكل ٥: منشورات صفحة handsoffsyria على "فيسبوك" في أوائل مارس/آذار 2025، تزعم (يمينًا) أن السلطات الانتقالية في سوريا تضطهد الطائفة العلوية، و(يسارًا) أنها مارست ضغوطًا على شركة ميتا لقمع الصفحة بسبب "نشر الحقيقة".
الشكل ٦: منشور رائج على "فيسبوك" من kostasantoniou033 منشور بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، يتناول سقوط الأسد.
تشمل الحسابات الأخرى في محيط evabobeeva كلاً من seshadri.srinivas.10، penny.giorgalisstafyla، karijaquesson، mintpressnews، و kostasantoniou033. من بين هذه الحسابات، يستحق mintpressnews الوقوف عنده بالبحث والتحليل.
يعد حساب MintPressNews موقعًا إخباريًا مؤيدًا للأسد ومرتبطًا بروسيا، ويشارك في نشر نظريات المؤامرة. تغطي MintPressNews الشأن السوري طوال فترة الحرب الأهلية (يمكن زيارة موقعها على الإنترنت على https://mintpressnews.com، وقناتها على تيليغرام عبر https://t.me/mintpress_news). وفقًا لما يُنشر على MintPressNews، فإن الخوذ البيضاء هي منظمة مسلحة، ولا توجد أدلة على أن الأسد استخدم الأسلحة الكيميائية ضد شعبه. صفحة فيسبوك الخاصة بـ mintpressnews تضم 446 ألف متابع حتى وقت كتابة هذا النص، ما يجعلها إحدى الركائز الرئيسية في شبكة نظريات المؤامرة.
عند مراجعة بعض منشورات MintPressNews منذ أواخر ديسمبر/كانون الأول 2024، نجد أن الموقع لا يذكر شيئًا إيجابيًا واحدًا عن سقوط الأسد.
الشكل 7: منشورات MintPressNews بعد انهيار نظام الأسد، وتتسم بالسلبية المستمرة، إذ تعمل على تقويض شرعية الحكومة الانتقالية عبر التركيز على علاقاتها السابقة والإيحاء بتحالفها الولايات المتحدة.
تُبدي الحسابات البارزة المؤيدة للأسد والمعادية للحكومة الانتقالية؛ مثل: evabobeeva وmintpressnews، صدمة تجاه ما يجري في غزة وتعاطفًا مع معاناة الفلسطينيين. ولا يبدو ذلك محض صدفة، بل يمكن تفسيره من جانبين. أولاً، يوظف أنصار الأسد القضية الفلسطينية لإظهاره في صورة المدافع عنها، رغم أن اهتمامهم بفلسطين يظل ثانويًا مقارنة بانشغالهم بسوريا. من جهة أخرى، هناك شخصيات مثل إيفا كارين بارتليت، التي بدأت علاقتها بالمنطقة من خلال فلسطين وليس سوريا. الكارثة الأخلاقية التي تتابعها في فلسطين قوّضت ثقتها في الحكومات الغربية ووسائل الإعلام المتماهية معها، ما ولّد لديها ميلاً متزايدًا لاحتضان خصوم الغرب.
وقد يكون هذا التوجّه نابعًا من براغماتية سياسية تسعى لإعادة تشكيل التحالفات في مواجهة الهيمنة الغربية، مع إدراك أن الأطراف المتقابلة في قضية فلسطين كله ضالعة في أنماط من التمييز والقمع، بل وحتى الإبادة بدرجات متفاوتة. إلا أن بعض الشخصيات تتجاوز هذا الإدراك الواقعي، فتنزلق نحو تبني كامل لدعاية تلك الأنظمة وأوهامها، في انفصال متزايد عن الواقع.
يظهر التداخل بين فلسطين وسوريا بشكل واضح على إنستغرام، إذ بدأ منشئو المحتوى الفلسطيني نشر المحتوى بشكل متكرر منذ بداية إبادة غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. قمنا بتطوير أداة لاستخلاص بيانات إنستغرام لأرشفة المحتوى الذي نشرته هذه الحسابات منذ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2024. إجمالًا، قمنا باستخلاص 36833 منشورًا نشر على 179 حسابًا تتوزع على الحدود بين سوريا وفلسطين.
على إنستغرام، من الممكن أن تتعاون الحسابات في خلق المحتوى مع حسابات أخرى، وغالبًا ما تتعاون الحسابات ذات الأجندة السياسية مع حسابات تشاركها التوجهات الأيديولوجية. يُظهر الشكل 8 شبكة التعاون في خلق المحتوى التي حسبناها بناءً على بياناتنا.
الشكل 8: شبكة التعاون بين الحسابات لخلق المحتوى وعددهم 179 قمنا باستخلاص بياناتها وشركائها في خلق المحتوى بإجمالي ,3219 حسابًا و13366 علاقة تعاون. العُقد الأكبر حجمًا تشير إلى حسابات تتعاون في خلق المحتوى بشكل متكرر. تم تلوين التجمعات الضمنية بحسب خوارزمية الكشف عن التجمعات لوفين (Louvain).
في أعلى يسار الشبكة يمكن بسهولة ملاحظة العُقد الملوّنة باللون الأخضر باعتبارها حسابات بارزة لفلسطينيين أو داعمين للقضية الفلسطينية؛ مثل: eye.on.palestine أو palestine.pixel. تنشر هذه الحسابات كمًا هائلًا من المحتوى لتوثيق إبادة غزة، وتسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين أمام الجمهور الدولي.
وبالمقارنة، نجد أن الحسابات الملوّنة باللون الأزرق بعيدة نسبيًا عن هذه الحسابات الخضراء، وأبرزها Michael Schirtzer، الذي ورد اسمه في الشكل 3 بوصفه أحد الجهات المروّجة للمعلومات المضلّلة بشأن سوريا.
لكن الأكثر إثارة للاهتمام هو أن الشبكة الفرعية ذات اللون البنفسجي تُشكّل جسرًا يربط بين الحسابات المهتمة بفلسطين والمجتمع الأوسع من أصحاب نظريات المؤامرة. راجع لقطة الشاشة في الشكل 9.
الشكل 9: عرض مُكبّر من الشكل 8 يركّز على قلب الشبكة الفرعية البنفسجية.
بالنظر إلى الشكل 9 يبرز حساب lowkeyonline؛ وهو اسم المستخدم على إنستجرام لفنان الهيب هوب البريطاني-الفلسطيني. وبالقرب من حسابه، ما يدل على وجود علاقة خلق مشترك قوية، نجد حساب mintpress، وهو حساب إنستغرام الخاص بمنصة Mint Press News، بالإضافة إلى mnar_mpn، وهو حساب مؤسِسَة المنصة.
تعمل المؤسِسَة أيضًا كمدربة للصدمات النفسية والتغذية، ما قد يفسّر سبب تعاونها المشترك أحيانًا مع palestineonaplate؛ وهو حساب ناشطة وطاهية فلسطينية.
أما أكثر الحسابات التي شاركت Mint Press في خلق المحتوى خلال الفترة ما بين 1 أكتوبر/تشرين الأول 2024 و31 يناير/كانون الثاني 2025؛ فهي مدرجة في الجدول 1 بالترتيب التنازلي.
الكتاب المشاركون مع Mint Press News على إنستغرام | عدد المنشورات المشتركة |
---|---|
mnar_mpn | 222 |
lowkeyonline | 157 |
sultanabutair | 112 |
grassrootslaw | 47 |
palestineonaplate | 7 |
الجدول 1: أبرز الكتاب المشاركين مع Mint Press News على إنستغرام، في الفترة بين 1 أكتوبر/تشرين الأول 2024 و31 يناير/كانون الثاني 2025.
mnar_mpn هو اسم الحساب الخاص بمؤسِّسة Mint Press News، وتبيّن أنها أكثر من شارك في إنشاء المحتوى مع الحساب خلال فترة الدراسة الممتدة لأربعة أشهر. ويأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد المشاركات حساب lowkeyonline، ثم حساب sultanabutair.
أما معظم المنشورات المشتركة بين مغني الراب البريطاني-الفلسطيني lowkeyonline وMint Press News فتدور حول القضية الفلسطينية، وهو ما يتّسق مع ما طرحنا من أنّ الأشخاص الذين تتحرك مشاعرهم في البداية بسبب الظلم الذي يشهدونه في فلسطين قد يجدون أنفسهم في نهاية المطاف متحالفين مع منصات إعلامية تتبنى نظريات المؤامرة؛ مثل Mint Press News.
أما العدد القليل من منشورات حساب lowkeyonline المشتركة مع mintpress التي تتعلّق بسوريا، فهي تدور حول فكرة أنّ الحكومة الانتقالية السورية ودودة تجاه إسرائيل، وأن إسرائيل تشن هجمات على سوريا من دون أن ترد الحكومة الانتقالية، وأنّ الفصائل المتمردة السورية كانت منذ زمن على علاقة بإسرائيل، وما إلى ذلك من روايات.
يُعدّ سقوط عائلة الأسد سببًا للاحتفال والأمل، لكن مستقبل سوريا سيعتمد على توازنات دقيقة خلال المرحلة الانتقالية الراهنة. وإن كان لنا في التاريخ عبرة، فإن السردية التي تحاك في الوقت الراهن ستكون ذات أهمية تعادل -وربما تفوق- التطورات المادية على الأرض.
كشف هذا التحقيق في نشاط وسائل التواصل الاجتماعي على فيسبوك وإنستغرام عن بروز أصوات من خارج سوريا تحظى بمتابعة واسعة في الأوساط اليسارية العالمية، وتُبدي وجهات نظر سلبية تجاه الحكومة السورية الجديدة. وبينما يُفهم هذا الموقف على أنه نتيجة لغضب مشروع إزاء تواطؤ الغرب في نظام الفصل العنصري والإبادة الجارية في فلسطين، إلا أن هذا الغضب يتحول إلى شك عميق في انهيار نظام الأسد، إذ يُنظر إلى الصدف المحتملة على أنها تحالفات مدبّرة ومؤامرات خفية.
ومع استفادة إسرائيل من ضعف سوريا الحالي، تميل هذه الأصوات إلى تحميل الحكومة الانتقالية المسؤولية، وتصورها إما على أنها عاجزة في أحسن الأحوال، وإما دمية بيد إسرائيل في أسوأها، ما يسهم في إثارة الانقسامات الداخلية. في الوقت ذاته، يمكن تضخيم المخاوف الحقيقية بشأن معاملة الأقليات داخل البلاد، إذ تتحول الشائعات إلى اتهامات، والاتهامات إلى قناعات راسخة.
في ظل هذا الاضطراب، ومع تعاظم الرهانات، قد نشعر جميعًا برغبة في اتخاذ موقف أو التدخل، بهذا الشكل أو ذاك. لكن ربما تكون النصيحة الأفضل في هذه اللحظة أن نراقب، وننصت، ونواصل جمع المعطيات، وأن نُعلّق أحكامنا مؤقتًا.